جراح غير مرئية: الصحة النفسية في شمال سوريا ليست أولوية
نشرت: ٠٨/٠٤/٢٠٢٤ وقت القراءة: 9 دقائقفي اليوم العالمي للصحة النفسية، نسلط الضوء على أهمية الصحة النفسية والمرونة في وجه الصعوبات. بالنسبة للكثير من الأطفال السوريين، سرقت الحرب منهم طفولتهم واجبرتهم على النضج بشكل سريع، أخذين على عاتقهم مسؤوليات الناضجين ومواجهة صعوباتهم.
لقد تركت الحرب في سوريا أثاراً مرئية وغير مرئية على السوريين. بينما الأثر المباشر للحرب يمكن ملاحظته وقياسه، يجب علينا ألا ننسى الندوب غير المرئية والتي لها أثار كبيرة خصوصاً على الأطفال. رغم أن غالبية الأطفال السوريين قد شهدوا رعب الحرب، الكثير منهم تأثر أيضاً بسبب الصدمات، مما أثر بشكل كبير على صحتهم العقلية والنفسية.
تعرض الكثير من الأطفال للعنف، بما في ذلك القصف وإطلاق النار. بينما يصارع البعض فقدانهم لأفراد عائلتهم المقربين منهم. في نفس الوقت ترك الكثيرون منازلهم مما سبب في اضطراب حياتهم وتعليمهم وشعورهم بالاستقرار. بينما أجبر الكثيرون بشكل مؤسف على عمالة الأطفال، وسرقت منهم طفولتهم من أجل النجاة.
في دراسة لميد غلوبال لفحص الاضطرابات النفسية واضطراب ما بعد الصدمة ما بين السوريين الذين يعيشون ضمن الصراع المستمر وجدت أن حوالي 89.2% يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة وتظهر عليهم علامات الاضطرابات النفسية. في سوريا، الكثير من العوامل تساهم في الصعوبات التي يعاني منها قطاع الصحة النفسية. من هذه العوامل هي طبيعة الصراع، حجم التهجير، وصمة العار المرتبطة بالصحة النفسية، وعدم الفهم الصحيح للدعم النفسي. هذه المشكلات مجتمعة يضاف إليها إلى النقص في الأشخاص المؤهلين وعدم القدرة على توفير مثل هذه الخدمات الضرورية بشكل فعال
الإحصاءات تدق ناقوس الخطر وتظهر أن هنالك أكثر من 6.5 مليون طفل في حاجة، مع ازدياد عدد الأطفال الذين يحتاجون إلى مساعدة بنسبة 7% في السنتين الماضيتين. الأطفال في سوريا يستمرون في الصراع مع الجروح الجسدية والنفسية. إن بقيت الصدمات دون معالجة، سوف تبقى مدى الحياة مما يؤثر على صحتهم ومستقبلهم.
"اثنين من أكثر العوائق التي تواجه الوصول إلى الصحة النفسية هي العوامل النفسية والصعوبات الاقتصادية،" يقول أحمد عبد الرحمن، مستشار نفسي سوري مع خبرة في سوريا وتركيا. "غالباً، الوصمة المرتبطة بالبحث عن المساعدة النفسية تشكل عائقاً للبحث عن المساعدة. حتى بالنسبة للذين يبحثون عن المساعدة من الممكن أن يواجهوا مصاعب مالية خلال رحلتهم للشفاء."
في سوريا يجب علينا أن نولي الضروريات أهمية أكبر
في قلب سوريا التي مزقها الحرب، دمر منزل بسبب قصف طاله، مما أدى لوفاة الزوج وبقيت الزوجة جريحة. في وسط الفوضى، بقي الأطفال محجوزين تحت الأنقاض، غير ملاحظين وغير مسموعين. هذه لحظة سوف تشكل مصيرهم، ومستقبل رجل محب يدعى علي.
في قرية عصفت بها الحرب في شمال سوريا، حياة علي كانت بسيطة، شارك منزله مع زوجته وأطفالهم الثلاث، بينما كان يكسب معيشته كتاجر سيارات ويمتلك منزلين.
في 2015، كان يجلس علي مع زوجته بينما بدأت القصف على منزله محولاً إياه إلى أنقاض. "احترقت سياراتي، وتدمر منزلي، وتوفت زوجتي،" يتذكر علي. "114 شظية اخترقت جسدي عندما كنت أحاول حماية أطفالي، مما تركني غير قادر على رفع أي شيء أثقل من كأس شاي."
من بين الدمار وبينما كان علي ينظف الأنقاض سمع صوت بكاء طفل. "وجدت أربع أطفال، الأكبر كان عمره خمس سنوات والأصغر عمره أسبوعين فقط،" يتذكر علي. بدون تردد، أخذ علي الأطفال وبدأ برعايتهم لحين ظهور والديهم حتى عندما واجهه المجتمع بالرفض والشكوك حول تربية أطفال ليسوا أطفاله البيولوجيين.
في سنة 2016، تزوج من جديد وأنجب طفلتين من زوجته الجديدة. للأسف هذه الزواج لم يستمر وبعد أربع سنوات، وجد علي نفسه يربي أطفاله الخمسة والأطفال الأربعة الذين وجدهم. وتابع مهمته الدؤوبة لإيجاد أهل الأطفال حيث نشر صورتهم على مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة يائسة لإعادتهم إلى أهلهم.
في مكان أخر، كانت هنالك امرأة تمر بجحيمها الخاص:
"ما حدث هو القصف،" تتذكر أمينة*، يرجف صوتها بينما تتذكر ذلك اليوم المشؤوم.
في 2015، كانت تجلس أمينة مع زوجها وأطفالها عندما قصف منزلهم، مما دمر البيت وأخذ حياة زوجها وتعرضت أمينة لإصابات قاسية نقلت على أثرها إلى المستشفى. "كل ما كنت أفكر فيه هو أطفالي. أين هم الآن؟ هل هم على قيد الحياة؟" تضيف. "عندما غادرت المستشفى عدت مباشرةً إلى أنقاض المنزل مؤمنةً أن أطفالي مازالوا أحياء ولكن لم يوجد لهم أي أثر."
"من نجوا عادوا إلى عائلاتهم، بينما الأخرون قد دفنوا تحت الأنقاض،" هذا ما سمعته أمينة* في كل مرة سألت عن أطفالها. الأمل كان يخبو مع مرور الوقت حيث كان أصدقائها وعائلتها يطلبون منها أن تفقد الأمل لإيجاد أطفالها. "كان لدي هذا الشعور القوي أنهم مازالوا على قيد الحياة، لم أتوقف عن البحث عنهم ورفضت أن أصدق أنهم قد توفوا!"
العام 2019 في شمال سوريا، وعلي مازال يبحث عن عائلة الأطفال:
"كنت أمشي في الطريق عندما اقترب مني أحد الغرباء وأخبرني أنه يعرف امرأة قد فقدت أطفالها،" يقول علي. "أسرعت للقاء تلك المرأة حاملاً معي صور الأطفال. هل من المعقول أن الوقت قد حان؟ هل وجدت أخيراً والدتهم؟"
"عندما رأيت الصور، تعرفت على الفور على ابني الأكبر، لقد كانوا 5 و3 سنوات عندما رأيتهم لأخر مرة. لقد أحضروهم لي في اليوم التالي،" تضيف أمينة.
الصبية تعرفوا فوراً على والدتهم، بينما شعرت البنات الأصغر سناً بالارتباك، حيث كنا طفلات حين انفصلنا عن والدتهن. "لم أكن أعرف كيف يجب أن أتصرف. هل يجب أن أبكي أم أن أضحك؟ كنت تحت تأثير صدمة كبيرة. لحظة لقائنا عوضتني عن أربع سنوات قضيتهم بعيداً عنهم،" تشرح لنا.
"لم أكن قادرة على النوم لمدة شهر كامل. البقاء بعيداً عنهم كان أمراً لا يحتمل، لقد ربيتهم لأربع سنوات وكان ينادونني بابا!" يقول علي.
"ابنتي الصغيرتين كانتا تبكيان دوماً وتسألان عن والدهما، كان هو كل ما تعرفانه وكنت أنا غريبة. لم أكن أعرف ماذا يجب أن أفعل،" تقول أمينة.
"بعد شهر قررت أن أضع حداُ للأمر! لم أعد قادراً على البقاء بعيداً عنهم أطول من ذلك،" يقول علي.
"تقدم لي،" تضيف باسمةً.
"الآن جميعنا نعيش معاً ولدينا ابنة جديدة،" يضيف.
"زوجته توفيت، وأنا فقدت زوجي، ولكن هذه الأزمة قربتنا من بعضنا البعض في النهاية،" تختم أمينة حديثها.
وعاشوا بهناء وسبات لبقية العمر.. النهاية؟
قصة علي وأمينة قد تبدو مثل قصص الخيال لكنها واقعية بشكل كبير.
"الأمر الأصعب في الحرب هو فقدان الإحساس بالأمن والأمان. الخوف من الدمار يلاحقنا دوماً،" يكشف لنا.
عائلة علي كانت واحدة من 13,000 عائلة استفادت من قسائمنا الغذائية.
"قبل هذه المساعدة، لم يكن لدينا شيئاً لنأكله. واحدة من بناتي تعاني من السكري والتهاب الكبد، استدنت المال من أحد جيراني لتغطية تكاليف علاجها،" يشرح لنا علي. "اضطررنا لإخلاء منزلنا القديم لأننا لم نعد قادرين على دفع الإيجار بعد الآن. نعيش الأن في غرفة الناطور ومع ذلك نخاف من الإخلاء من جديد."
"ضمان الطعام للعائلة هو كالقتال مع الموت، لا تعرف متى يمكنك أن تخسر،" يشرح علي. "عندما بدأت بتلقي القسائم الغذائية، استعدت الأمل."
ازدياد الفقر في شمال سوريا أجبرت الأهالي على الاختيار بين صحو أولادهم العقلية ونجاتهم الجسدية.
"لم يذهب أطفالي إلى المدرسة أبداً. يريدون أن يتعلموا الكتابة والقراءة، أريدهم أن يستمتعوا بطفولتهم. للأسف، بالكاد نتحمل كلفة الطعام، فكيف لنا أن نتحمل كلفة الكتب والأقلام،" تخبرنا أمينة.
تشرح أمينة أن واحد من الأطفال يعاني من مشاكل عقلية. الطفل لا يتلكم أو يلعب مع أحد، هذا الأمر مريع. قامت منظمة الناس في حاجة بإحالة الحالة إلى مزود خدمة خارجي من أجل الدعم النفسي. لكن أمينة تتخوف من أن تكاليف النقل يمكن أن تشكل حاجزاً يمنع أطفالها من الوصول إلى العلاج الذي يحتاجونه.
أحمد، مستشار نفسي من شمال سوريا يشرح أن الأهالي في شمال سوريا يشاركون أحياناً صور وقصص عنيفة مع أطفالهم، مما يريهم الواقع الصعب. في النتيجة، يعاني الأطفال من إشارات الصدمات ومنها الكوابيس والتبول الإرادي وفقدان الوزن والخ.
"من المهم جداً للأهالي أن يتعرفوا على الإشارات التي تظهر على أطفالهم وتوضح أنهم يصارعون. كذلك يجب أن يتعلموا أن يقللوا من تعرضهم لأي صدمة إضافية،" يوضح أحمد.
بتمويل من عمليات الاتحاد الأوروبي للحماية المدنية والمساعدة الإنسانية والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون وآلية الاتحاد الأوروبي لدول الجوار والتمويل الإنساني العابر للحدود، قامت منظمة الناس في حاجة بأخذ خطوات للاستجابة لهذه الحاجات الضاغطة، حيث قمنا بتحويل 600 حالة إلى مزودي خدمة من أجل ضمان الدعم والحماية الضروريين.
إننا نوجه جهودنا لتكون ذات نهج يتوجه للمجتمع من أجل ضمان تلبية كافة الاحتياجات الضرورية للمجتمعات المتضررة في شمال سوريا. بالإضافة إلى ذلك، فإننا نقوم بتسهيل الوصول إلى التعليم ذي النوعية الجيدة وخدمات الدعم النفسي. كذلك، نقوم بتنظيم جلسات للأهالي من أجل اطلاعهم على الدعم الذي يمكنهم أن يقدموه لأطفالهم.
بالإضافة إلى كل هذه الجهود، قمنا بتنظيم نشاطات للتماسك الاجتماعي. حيث حضر أكثر من 5000 شخص هذه النشاطات خلال السنة الفائتة. هذه النشاطات تخدم كفرصة من أجل جمع الناس من مختلف الخلفيات الاجتماعية وتشجيعهم للانخراط في نشاطات مشتركة. هذه النشاطات تساهم في تشكيل علاقة بين المشاركين وتساعد على تقوية الروابط الاجتماعية.
في سنة 2023، استفادت المئات من برامج المساعدة الفردية، الممولة من قبل المكتب الأمريكي للمساعدة الإنسانية و عمليات الاتحاد الأوروبي للحماية المدنية والمساعدة الإنسانية والوكالة السويسرية للتنمية والتعاون وآلية الاتحاد الأوروبي لدول الجوار والتمويل الإنساني العابر للحدود، قامت منظمة الناس في حاجة بتقديم مساعدة ضرورية للسكان مثل سماعات الاذن، نظارات طبية، كراسي متحركة وغيرها من الاحتياجات.
"هذا النوع من المساعدة مصمم من أجل الحفاظ على كرامة وسلامة الأفراد. وكذلك تعكس التزامنا بالتضمين والتقوية والشفافية في عملنا الإنساني،" يشير حسن، مسؤول الدعم النفسي في منظمة الناس في حاجة في شمال سوريا.
الدعم النفسي لا يجب أن يكون امتيازاً:
في واحد من مراكزنا للدعم النفسي في شمال سوريا، التقينا متعب وأماني، الذين يعيشان في خيمة ويحضرون إلى مركزنا التعليمي. البعد الجغرافي يشكل عائقاً واضحاً للوصول إلى خدمات التعليم والحماية. لمعالجة هذا الأمر، قمنا بإنشاء مراكز غير رسمية للتعليم ضمن المخيمات في المناطق النائية من أجل ضمان الوصول للجميع. "كذلك قمنا بتوظيف حراس وعمال نظافة من المخيم من أجل ضمان المنفعة للجميع،" يضيف حسان.
"كنت ألعب مع أقاربي عندما رأيت المدرسة. ركضت إليهم مباشرةً وسألتهم إن كان بإمكاني الالتحاق، كنت سعيداً جداً،" قال لنا متعب، صبي سوري ذي 10 سنوات، يعيش في مخيم في شمال سوريا. "الأساتذة هنا يشجعون الجميع خصوصاً الطلاب الخجولين."
يعيش متعب في المخيم منذ ثلاث سنوات، حيث عاش تجربة النزوح لعدة مرات في حياته وخسر خلال ذلك والده قبل أن ينتهي به الأمر في المخيم مع أمه وأخوته. "الآن، أدرس إخوتي في البيت وأمسك بأيديهم لأعلمهم كيفية الكتابة. أريد أن أقول لكل الأطفال الذين لا يذهبون إلى المدرسة أنني أعرض عليهم أن أدرسهم!" يضيف.
أماني، طفلة سورية ذات 7 أعوام، كانت تجلس على المرجوحة في مركز غير رسمي للتعليم تشاهدنا وتضحك. عندما اقتربنا منها أخبرتنا بقصتها. "لدي أخين وأنا أكبرهم. أساعد أمي في أعمال البيت وأبي في الاعتناء بالخراف،" تشرح لنا. "عندما أخبرتني أمي أني ذاهبة إلى المدرسة، كنت متحمسة جداً! أريد أن أصبح دكتورة واساعد الناس، وهذا سيحدث عندما أذهب إلى المدرسة."
وفقاً لتقرير أطباء بلا حدود، فإن الأطفال في شمال سوريا قد أظهروا تغيرات في سلوكهم بما في ذلك الأرق والتهيج والعدوانية والصمت. كذلك يعانون من الارق وأحياناً استذكار مراحل سابقة من حياتهم. صعوبة الوصول إلى شمال سوريا وندرة الموارد تساهم في قلة تخديم المنطقة من ناحية الصحة النفسية.
الوصول إلى خدمات رعاية الصحة النفسية ليس امتيازاً، بل هو حق من حقوق الإنسان ويجب أن يكون متاحاً للجميع. الندوب المرئية وغير المرئية يجب أن يتم تحديدها ومعالجتها من خلال ضمان المزيد من الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية والتعليم والحماية والمساعدات الإنسانية للأطفال وعائلاتهم.
*تم تغيير الأسماء لأغراض الحماية.